رؤى اقتصادية : عجز الموازنة والحلــــــــــــــــول الإسلاميـــــــة بــــــــــــــــــين المخاطــــــــــــــروالضوابط الشرعيــــــة
بقلم: د. محمد عمر الحاجي
تُعّرف الموازنة على أنها خطة مالية شاملة تتضّمن تقدير لنفقات الدولة وإيراداتها، وبالتالي فهي: برنامج مالي عملي وسنوي، ومحوره الأساسي تقدير وتخمين لنفقات الدولة وإيراداتها، وإذا حدث تقارب بين النفقات وبين الإيرادات قيل: هناك توازن الموازنة، وإذا حدث العكس، قيل: هناك عجز في الموازنة. والعجز في الموازنة هو: زيادة النفقات عن الإيرادات في موازنة الدولة العامة، بحيث لا تستطيع الإيرادات مجاراة الزيادة المضطردة في نفقات الدولة العامة. مخاطر عجز الموازنة:
رصد المختصّون هذه المسألة، فتبيّن لهم أن هناك عدداً كبيراً من المخاطر،أهّمها ما يلي:
ـ عادةً ما يؤدي عجز الموازنة إلى الاقتراض، أي: سحب الموارد والأموال التي كانت جاهزةً لزيادة الاستثمار الخاص ـ خاصةً في مجالات التجارة والصناعة ـ مما يؤدي إلى انخفاض كمية الإنتاج.
ـ قد يؤدي عجز الموازنة إلى الإفلاس، وذلك لأن الدولة قد تضطر إلى الاقتراض بهدف سّد العجز.
- في غالبية الأحيان يوقع العجز الدولة في حالة التضخم، وذلك لأنها تضطر إلى طبع كميات إضافية من النقود دون زيادة رصيدها ، فتكون النتيجة انخفاض قيمة العُملة وحدوث التضخّم.
وتعود أسباب عجز الموازنة إلى سببين رئيسيين هما:
- زيادة النفقات، وعادة ما يكون من وراء ذلك ما يلي:
- زيادة عدد السكان.
- زيادة تكاليف التسليح والدفاع.
- الكوراث الطبيعية.
- الترف والبذخ الذي يعيشه ذو النفوذ والأثرياء.
- انخفاض الإيرادات وقلتها: وعادة ما يكون وراء هذا السبب عدة عوامل، أهمها:
- فرض ضرائب غير عادلة.
- انخفاض مستويات الدخل وضعف النمو الاقتصادي.
- عدم كفاءة وفعالية الجهات المسؤولة عن جمع وتحصيل المال العام.
- فرض الضرائب.
الحلول الإسلامية لعجز الموازنة:
تعتبر الشريعة الإسلامية الدولة وأجهزتها ذات طبيعة شاملة وخاصةً من خلال وظائفها، والتي أهمها: الإنفاق على الوظائف العامة كتولية القضاة والولاة والورع، إضافةً إلى حفظ الدّين في أصوله وفروعه والإنفاق على حفظ الأمن الداخلي والخارجي، ورعاية الأمور الاقتصادية المالية، وكفاية المحتاجين وأهل الكرب والإشراف على الضياع وإنفاق ذوي الفاقات، والإنفاق على التعليم والثقافة والصحة ونحو ذلك.
ولذلك وضعت الشريعة الإسلامية عدة تشريعات بهدف الإسهام في تخفيف العبء عن الموازنة ـ وهي التي كانت تُعرف فيما مضى ببيت المال . وأهمها ما يلي:
- الزكاة: لقد ركزت الشريعة الإسلامية على ضرورة إعطاء الفقير حدّ الكفاية، وإخراجه من الحاجة إلى الاستغناء عن المسألة، كل هذا يجعل من الزكاة تشريعاً يساهم في تخفيف العبء عن الموزانة.
- الوقف: بحيث تجيز الشريعة الإسلامية وقف كل ما جاز بيعه وجاز الانتفاع به، مصداق ذلك قوله تعالى: (لَن تَنَالُواْ الْبرّ حَتّىَ تُنْفِقُواْ مِمّا تُحِبّونَ وَمَا تُنْفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ) سورة آل عمران:(92)
ـ التكافل الاجتماعي: ومعناه (أن يتضامن من أبناء المجتمع أفراد وجماعات على اتخاذ المواقف الإيجابية بدافع من شعور وجداني عميق ينبع من أصل العقيدة الإسلامية، ليعيش الفرد في كفالة المجتمع وتعيش الجماعة بمؤازرة الفرد، حيث يتعاون الجميع ويتضامنون لإيجاد الأفضل ودفع الضرر عن أفراده). وما أكثر الآيات والأحاديث التي تحضّ على التكافل، مصداق ذلك قوله تعالى: (لّيْسَ الْبِرّ أَن تُوَلّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـَكِنّ الْبِرّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنّبِيّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَىَ حُبّهِ ذَوِي الْقُرْبَىَ وَالْيَتَامَىَ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السّبِيلِ وَالسّآئِلِينَ وَفِي الرّقَابِ وَأَقَامَ الصّلاةَ وَآتَى الزّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصّابِرِينَ فِي الْبَأْسَآءِ والضّرّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَـَئِكَ الّذِينَ صَدَقُوآ وَأُولَـَئِكَ هُمُ الْمُتّقُونَ) سورة البقرة: (177). وقوله صلوات الله عليه فيما أخرجه الترمذي: ((السّاعي علىالأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله، أو كالذي يصوم النهار ويقوم الليل)).
وتمتّد صور التكافل لتشمل النفقات بين الزوجين والقرابة، وكفالة الأيتام ورعايتهم، ورعاية ضحايا الكوارث والمنكوبين، ورعاية المرضى وذوي العاهات وما إلى هنالك.
ومن أهم التشريعات الإسلامية في هذا المجال: الوصايا، وصدقة الفطر، والنذور، والكفارات، والأضاحي، ونحو ذلك.
- ترشيد الإنفاق العام: أي المحافظة على المال العام وحُسن تدبيره ورعايته وتجنب هدره وإضاعته، مصداق ذلك ما أخرجه البخاري أن النبي ( قال: ((إن الله تعالى يكره لكم ثلاثاً: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال)).
ذلك لأن من أهداف الإنفاق العام، إعادة توزيع الدخل، وإشباع الحاجات العامة للمسلمين، والإنفاق من أجل الاستثمار والإنتاج، والإنفاق لأجل التوظيف. والإنفاق لمحاربة التضخم ووضع السياسات السعرية المناسبة. وهذا ما جعل الشريعة الإسلامية تضع بعض القواعد التي تضمن تحقيق الرشد في الإنفاق، مثال ذلك:
- القوامة في الإنفاق: كالنهي عن الإسراف والتبذير، والنهي عن البخل والتقتير، والتوسط والاعتدال في الإنفاق، مصداق ذلك قوله تعالى: (وَالّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً( سورة الفرقان: (67).
- انسجام الإنفاق العام مع الأحكام الشرعية: كعدم الإنفاق في المحرمات وأمور اللهو المحرّم.
- الرقابة على المال العام، قال تعالى: (وَلاَ تُؤْتُواْ السّفَهَآءَ أَمْوَالَكُمُ الّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مّعْرُوفاً( سورة النساء: (5)
- عدالة التوزيع: سواءً بين الأفراد، أو بين الجماعات.
- تناسب الإنفاق العام مع الأحوال المالية للدولة: كما قال عمر رضي الله عنه (إذا وسّع الله عليكم فأوسعوا). وهكذا، تلعب النفقة العامة دوراً كبيراً في تخفيف عجز الموازنة، وذلك بالتركيز على المشاريع الضخمة، كالمناجم ومشاريع استخراج البترول ونحوها، والتي تساعد في رفع مستوى المعيشة وزيادة الدخل العام، ورضي الله عن عمر عندما حدّد السياسة المالية للدولة بقوله: إني لا أجد هذا المال يصلحه إلاّ خلال ثلاث: أن يُؤخذ بالحق، ويُعطى بالحق، ويمنع من الباطل، وإنما أنا ومالكم كوليّ اليتيم، إن استغنيت استعففت، وإن افتقرت أكلت بالمعروف، ولكم عليّ إذا وقع في يدي أن لا يخرج منّي إلاّ في حقه، وأعينوني على نفسي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر).
- مساهمة الضرائب: هناك ضرائب مباشرة وأخرى غير مباشرة، مثالها:' الضرائب على الدخل، إضافة إلى الضريبة على الدخل العام، والضرائب على المال والتركات، والاستهلاك، والإنفاق، وهناك ضرائب نسبية وضرائب تصاعدية، وأخرى عينية وثالثة شخصية، ونحو ذلك. ويمتاز النظام الضريبي الإسلامي عن غيره بأنه يركز على عدم إضرار هذه الضرائب بالمصالح العامة للأمة، إضافة إلى أنه لا يجوز في الإسلام لأحد أن يجمع الضرائب إلاّ بقدر الحاجة!
أما اليوم فقد زاد الاعتماد على الضرائب، وذلك من أجل تمويل الإنفاق العام، حتى أن الإيرادات الضريبية لحكومات الدول الصناعية قد زادت عن (39 في المئة ).
أجل: قد تأتي على الدولة ظروف قاهرة، بحيث لا تفي الضرائب بمتطلبات الإنفاق العام وسد الحاجات، مما يجعلها تضطر إلى اللجوء لتمويل العجز في موازنتها عن طريق القروض العامة مثلاً. وأكثر ما يكون ذلك في حال تمويل المشروعات الضخمة كإقامة الجسور ومحطات توليد الطاقة، أو في حالة احتياج الدولة للمال لمواجهة نفقات تنموية أو عسكرية ونحو ذلك.
وهذا أمر مشروع قال تعالى: (وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَاعْلَمُوَاْ أَنّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ مّن ذَا الّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَاللّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ( سورة البقرة: (244-245).
وفي السنّة العملية أمثلة كثيرة على ذلك، أخرج ابن ماجه عن عبد الله بن أبي ربيعة أن رسول الله ( استسلفه مالاً يضعه عشر ألفاً، فلما رجع الرسول يوم حنين، قدم عليه مال فقال: "ادع لي ابن أبي ربيعة" فقال له: (( خُذ ما أسلفتَ، باركَ الله لكَ في مالك وولدك، إنما جزاء السّلف الحمد والوفاء)). لكن هناك بعض الضوابط الشرعية للقرض العام: كأن يكون في حالة الضرورة مع خلو خزينة الدولة من الأموال، مع الالتزام بترتيب مصادر الإيرادات، والقدرة على السّداد، مع ضبط النفقات الترفيهية وترشيد الإنفاق العام. وإيقاع التصّرف في القرض العام على الوجه المشروع.